فصل: الفصل الأول في التعريف بحقيقته:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الباب الرابع من المقدمة في التعريف بحقيقة ديوان الإنشاء وأصل وضعه في الإسلام وتفرقه بعد ذلك في الممالك:

وفيه فصلان:

.الفصل الأول في التعريف بحقيقته:

لا خفاء في أنه اسم مركب من مضاف وهو ديوان ومضاف إليه وهو الإنشاء، وأما الديوان فاسم للموضع الذي يجلس فيه الكتاب وهو بكسر الدال. قال النحاس في صناعة الكتاب وفتحها خطأ قال: وأصله دوان فأبدلت إحدى الواوين ياء فقيل ديوان، ويجمع على دواوين. واختلف في أصله، فذهب قوم إلى أنه عربي. قال النحاس: والمعروف في لغة العرب أن الديوان الأصل الذي يرجع إليه ويعمل بما فيه. ومنه قول ابن عباس: إذا سألتموني عن شيء من غريب القرآن فالتمسوه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب. ويقال دونته أي أثبته وإليه يميل كلام سيبويه. وذهب آخرون إلى أنه عجمي وهو قول الأصمعي وعليه اقتصر الجوهي في صحاحه، فقال الديوان فارسي معرب. وقد حكى الماوردي في الأحكام السلطانية في سبب تسميته بذلك وجهين.
أحدهما: أن كسرى ذات يوم أطلع على كتاب ديوانه في مكان لهم وهم يحسبون مع أنفسهم فقال ديوانه أي مجانين فسمي موضعهم بهذا الاسم ولزمه من حينئذ ثم حذفت الهاء من آخره لكثرة الاستعمال تخفيفاً فقيل ديوان وعيله اقتصر أبو جعفر النحاس في صناعة الكتاب.
والثاني: أن الديوان بالفارسية اسم للشياطين، وسمي الكتاب بذلك لحذقهم بالأمور ووقوفهم على الجلي منها والخفي.
وأما الإنشاء فقد تقدم أنه مصدر أنشأ الشيء ينشئه إذا ابتدأه واخترعه، وحينئذ فإضافة الديوان للإنشاء تحتمل أمرين: أحدهما: أن الأمور السلطانية من المكاتبات والولايات تنشأ عنه وتبدأ منه.
والثاني: أن الكاتب ينشئ لكل واقعة مقالاً. وقد كان هذا الديوان في الزمن المتقدم يعبر عنه بديوان الرسائل تسمية له بأشهر الأنواع التي تصدر عنه لأن الرسائل أكثر أنواع كتابة الإنشاء وأعمها، وربما قيل ديوان المكاتبات. ثم غلب عليه هذا الاسم وشهر به واستمر عليه إلى الآن.

.الفصل الثاني في أصل وضعه في الإسلام وتفرقه عنه بعد ذلك في الممالك:

اعلم أن هذا الديوان أول ديوان وضع في الإسلام؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكاتب أمراءه، وأصحاب سراياه من الصحابة، رضوان الله عليهم ويكاتبونه، وكتب إلى من قرب من ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام، وبعث إليهم رسله بكتبه: فبعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك الحبشة، وعبد الله بن حذافة إلى كسرى أبرويز ملك الفرس، ودحية الكلبي إلى هرقل ملك الروم، وحاطب نب أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب مصر، وسليط بن عمرو إلى هوذة بن علي ملك اليمامة، والعلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين إلى غير ذلك من المكاتبات. وكتب لعمرو بن حزم عهداً حين وجهه إلى اليمن. وكتب لتميم الداري وإخوته بإقطاع بالشام. وكتب كتاب القضية بعقد الهدنة بينه وبين قريش عام الحديبية. وكتب الأمانات أحياناً. إلى غير ذلك مما يأتي ذكره في الاستشهاد به مواضعه إن شاء الله تعالى.
وهذه المكتوبات كلها متعلقها ديوان الإنشاء بخلاف ديوان الجيش، فإن أول من وضعه ورتبه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته.
على أن القضاعي قد ذكر في تاريخه عيون المعارف، وفنون أخبار الخلائف أن الزبير بن العوام، وجهيم بن الصلت كانا يكتبان للنبي صلى الله عليه وسلم أموال الصدقات، وأن حذيفة بن اليمان كان يكتب له خرص النخل، وأن المغيرة بن شعبة والحصين بن نمير كانا يكتبان المداينات والمعاملات. فإن صح ذلك فتكون هذه الدواوين أيضاً قد وضعت في زمنه صلى الله عليه وسلم، إلا أنها ليست في الشهرة وتواتر الكتابة في زمانه صلى الله عليه وسلم، كما تقدم من متعلقات كتابة الإنشاء.
وقد رأيت في سيرة لبعض المتأخرين أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم نيف وثلاثون كاتباً: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعامر بن فهيرة، وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية، وأبان أخوه، وسعيد أخوهما، وعبد الله بن الأرقم الزهري، وحنظلة بن الربيع الأسدي، وأبي بن كعب، وثابت بن قيس بن شماس، وزيد بن ثابت، وشرحبيل بن حسنة، ومعاوية بن أبي سفيان، والمغيرة بن شعبة، وعبد الله بن زيد، وجهيم بن الصلت والزبير بن العوام، وخالد بن الوليد، والعلاء بن الحضرمي، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن رواحة، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن عبد الله بن أبي، ومعيقب بن أبي فاطمة، وطلحة بن زيد بن أبي سفيان، والأرقم ابن الأرقم الزهري، والعلاء بن عتبة، وأبو أيوب الأنصاري، وبريدة بن الخصيب، والحصين بن نمير، وأبو سلمة المخزومي، وحويطب بن عبد العزى، وأبو سفيان بن حرب، وحاطب بن عمرو، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان ألزمهم له في الكتابة معاوية بن أبي سفيان، وزيد بن ثابت.
وكتب لأبي بكر عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت، وعثمان هو الذي كتب عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالخلافة عن أبي بكر رضوان الله عليه كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
وكتب لعمر رضي الله عنه زيد بن ثابت، وعبد الله بن خلف.
وكتب لعثمان رضي الله عنه مروان بن الحكم.
وكتب لعلي عبد الله بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسعيد بن نجران الهمداني.
وكتب للحسن بن علي رضي الله عنهما عبد الله بن أبي رافع كاتب أبيه.
ثم كانت دولة بني أمية فتوالت خلفاؤهم من معاوية بن أبي سفيان فمن بعده، وأمر ديوان الإنشاء في زمن كل أحد مفوض إلى كاتب يقيمه إلى حين انقراض دولتهم. وكان الخليفة هو الذي يوقع على القصص ويحدثها بنفسه. والكاتب يكتب ما يبرز إليه من توقيعه ويصرفه بقلمه على حكمه. وكان ممن اشتهر من كتابهم بالبلاغة وقوة الملكة في الكتابة حتى سار ذكره في الآفاق، وصار يضرب به المثل على ممر الأزمان عبد الحميد بن يحيى كاتب مروان بن محمد آخر خلفائهم.
فلما بزغت شمس الخلافة العباسية بالعراق وولي الخلافة أبو العباس السفاح أول خلفاء بني العباس، استوزر أبا سلمة الخلال، وهو أول من لقب بالوزارة في الإسلام على ما سيأتي، وتوالت الوزارة، فيكون الوزير هو الذي ينفذ أموره بقلمه، ويتولى أحواله بنفسه، وتارة يفرد عنه بكاتب ينظر في أمره، ويكون الوزير هو الذي ينفذ أموره بكلامه، ويصرفها بتوقيعه على القصص ونحوها، وصاحب ديوان الإنشاء يعتمد ما يرد عليه من ديوان الوزارة، ويمشي على ما يلقى إليه من توقيعه، وربما وقع الخليفة بنفسه حتى بعد غلبة ملوك الأعاجم من الديلم وبني سلجوق وغيرهم على الأمر والأمر على ذلك تارة وتارة إلى انقراض الخلافة من بغداد.
وكان ممن اشتهر من وزرائهم بالبلاغة حتى صار يضرب به المثل يحيى بن خالد وزير الرشيد، والحسن بن سهل، وعمرو بن مسعدة كاتب المأمون، وابن المقفع مترجم كتاب كليلة ودمنة، وسهل بن هارون الذي ترجمها. والأستاذ أبو الفضل بن العميد، والصاحب كافي الكفاة إسماعيل بن عباد وأبو إسحاق الصابي في جماعة آخرين منهم.
ثم لما انقرضت الخلافة من بغداد في وقعة هولاكو ملك التتاري سنة ست وخمسين وستمائة واستولت المغل والأعاجم على بغداد، بطل رسم الكتابة المعتبرة، وصار أكثر ما يكتب عن ملوك التتار بالمغلية أو الفارسية؛ والأمر على ذلك إلى زماننا على ما سيأتي بيانه في الكلام على دواوين الأمصار في المكاتبات والولايات وغيرهما إن شاء الله تعالى.
وكانت بلاد الغرب والأندلس بأيدي نواب الخلفاء من حين الفتح الإسلامي في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولا عناية لهم بديوان الإنشاء للتقرب من البداوة، وغايته المكاتبة إلى ديوان الخلافة ونحو ذلك، فلما غلب بنو العباس على الخلافة هرب طائفة من بني أمية إلى بلاد المغرب، وجازت البحر إلى الأندلس فانتزعوه من النواب الذين كانوا به وملكوه، وصاروا ينصبون فيه خليفة بعد خليفة، جارين على سنن ما كانوا عليه بالشام من ألقاب الخلافة، مضاهين لخلافة بني العباس ببغداد: من إقامة شعار الخلافة. واتخاذ ديوان الإنشاء، واستخدام بلغاء الكتاب. وتعدت دولتهم إلى بر العدوة من بلاد المغرب فحكموه، ثم تقاصر أمرهم بعد ذلك شيئاً فشيئاً باستيلاء المستولين المستبدين عليهم بالأمر إلى أن انقرضت دولتهم من الأندلس وبلاد المغرب، واستولت عليهم طوائف من الملوك وتنقلت بهم الأحوال في استيلاء الملوك على كل ناحية منهما، وتتابعت الدول في كل حين كلما خبت دولة نجمت أخرى على ما سيأتي ذكره في مكاتبات ملوكهما إن شاء الله تعالى.
وكان حال ديوان الإنشاء فيهم بحسب ما يكونون عليه من الحضارة والبداوة، فأوائل الدول القريبون عهداً بالبادية لا عناية لهم بكتابة الإنشاء، وإذا استحضرت الدولة صرفت اهتمامها إلى ديوان الإنشاء وترتيبه إلى أن استقر ما بقي من الأندلس بعد ما ارتجعته الفرنج منه بأيدي بني الأحمر، والغرب الأقصى بيد بني مرين. والغرب الأوسط بيد بني عبد الواد، وإفريقية بيد بقايا الموحدين من أتباع المهدي بن تومرت، وداخلتهم الحضارة، فأخذوا في ترتيب دواوين الإنشاء بهذه الممالك، ومعاناة البلاغة في المكاتبات ونحوها؛ واستمر الحال على ذلك إلى زماننا.
وممن اشتهر بالبلاغة من كتاب المغاربة والوزراء به: أبو الوليد بن زيدون، والوزير أبو حفص بن برد الأصفر الأندلسي، وذو الوزارتين أبو المغيرة بن حزم، والوزير أبو القاسم محمد بن الحد في جماعة أخرى من متقدمي كتابهم. ومن متأخريهم: عبد المهيمن كاتب السلطان أبي الحسن المريني، وأربى على كثير من المتقدمين ابن الخطيب وزير ابن الأخمر صاحب غرناطة من الأندلس ممن أدركه من عاصرناه.
أما الدير المصرية فلديوان الإنشاء بها خمس حالات:
الحالة الأولى: ما كان الأمر عليه من حين الفتح والى بداية الدولة الطولونية، ونواب الخلفاء تتوالى عليهم واحداً بعد واحد فلم يكن لهم عناية بديوان الإنشاء، ولا صرف همة إليه: للاقتصار على المكاتبات لأبواب الخلافة، والنزر اليسير من الولايات ونحو ذلك. ولذلك لم يصدر عنهم ما يدون في الكتب ولا يتناقل بالألسنة.
الحالة الثانية: ما كان الأمر عليه في الدولة الطولونية من ابتداء ولاية أحمد بن طولون، واستفحال ملك الديار المصرية في الإسلام، وترتيب أمرها، والى حين انقراض الدولة الاخشيديه، وفي خلال ذلك ترتب ديوان الإنشاء بها، وأنتظم أمر المكاتبات والولايات، وكان ممن اشتهر من كتابهم بالبلاغة وحسن الكتابة: أبو جعفر محمد بن أحمد بن مودود بن عبد: كان كاتب أحمد بن طولون. وكان مبدأ الكتاب المشهورين بها. وكتب بعده لخماروه بن أحمد بن طولون إسحاق بن نصر العبادي النصراني، وتوالت الكتاب بالديوان بعد ذلك.
الحالة الثالثة: ما كان الأمر عليه من ابتداء الدولة الفاطمية وإلى انقراضها. ولما ولي الفاطميون الديار المصرية، صرفوا مزيد عنايتهم لديوان الإنشاء وكتابه، فارتفع بهم قدره، وشاع في الآفاق ذكره، وولي ديوان الإنشاء عنهم جماعة من أفاضل الكتاب وبلغائهم: ما بين مسلم وذمي، فكتب للعزيز بالله ابن المعز أبو المنصور بن سوردين النصراني، ثم كتب بعده لابنه الحاكم ومات في أيامه، فكتب للحاكم القاضي أبو الطاهر البهزكي، ثم كتب بعده لابنه الظاهر، وكتب للمستنصر القاضي ولي الدين بن خيران، ثم ولي الدولة موسى بن الحسن قبل انتقاله إلى الوزارة، وأبو سعيد العميدي. وكتب للآمر والحافظ الشيخ الأجل أبو الحسن علي بن أبي أسامة الحلبي إلى أن توفي سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة فكتب بعده ولده الأجل أبو المكارم إلى أن توفي في أيام الحافظ؛ وكان يكتب بين يديهما الشيخ الأمين تاج الرآسة أبو القاسم علي بن سليمان بن منجد المبصري المعروف بابن الصيرفي، والقاضي كافي الكفاة محمود ابن القاضي الموفق أسعد بن قادوس، وابن أبي الدم اليهودي، ثم كتب بعد الشيخ أبي المكارم بن أبي أسامة المتقدم ذكره القاضي الموفق ابن الخلال أيام الحافظ، والى آخر أيام العاضد؛ وبه تخرج القاضي الفاضل البيساني، ثم شرك العاضد مع الموفق ابن الخلال في ديوان الإنشاء القاضي جلال الملك محمود بن الأنصاري وكان في أيامه القاضي المؤتمن كاسيبويه. ثم كتب القاضي الفاضل بين يدي الموفق ابن الخلال قرب وفاته في سنة ست وستين وخمسمائة في وزارة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وكتب من إنشائه عدة سجلات ومكاتبات عن العاضد آخر خلفائهم.
الحالة الرابعة: ما كان الأمر عليه من ابتداء دولة بني أيوب إلى آخر انقراضها.
قد تقدم أن القاضي الفاضل رحمه الله كان قد كتب بين يدي الموفق ابن الخلال في وزارة السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله عن العاضد آخر خلفاء الفاطميين، فلما استقل السلطان صلاح الدين المذكور بالملك وخطب لبني العباس على ما تقدم في الكلام على ملوك مصر، فوض إلى الفاضل الوزارة وديوان الإنشاء فكان يتكلم فيهما جميعاً، وأقام على ذلك إلى أن مات السلطان صلاح الدين، فكتب بعده لابنه العزيز وأخيه العادل أبي بكر، ثم مات، وكتب للكامل بن العادل القاضي أمين الدين سليمان المعروف بكاتب الدرج إلى أن توفي، فكتب بعده للكامل الشيخ أمين الدين عبد المحسن الحلبي مدة قليلة؛ وتوالت كتاب الإنشاء في الولاية إلى أن ولي الملك الصالح نجم الدين أيوب فولى ديوان الإنشاء الصاحب بهاء الدين زهيراً. ثم صرفه وولى بعده الصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان الإسعردي، فبقي إلى انقراض الدولة الأيوبية.
الحالة الخامسة: ما كان الأمر عليه في الدولة التركية مما هو مستقر إلى الآن. قد تقدم أن الصاحب فخر الدين بن لقمان بقي في ديوان الإنشاء إلى آخر الدولة الأيوبية.
ولما صارت المملكة إلى الدولة التركية، بقي في صحابة ديوان الإنشاء أيام أيبك التركماني، ثم أيام المظفر قطز، ثم أيام الظاهر بيبرس، ثم أيام المنصور قلاوون. فباشر ديوان الإنشاء في أيامه مدة، ثم نقله إلى الوزارة وولى مكانه بديوان الإنشاء القاضي فتح الدين بن القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في حياة والده، فبقي حتى توفي المنصور قلاوون، واستقر بعده ابنه الأشرف خليل، واستمر عنده في كتابة السر برهة من الزمان وسافر معه إلى الشام، فمات بالشام، فولي الأشرف مكانه القاضي تاج الدين في أثناء الطريق بمضي شهر من ولايته، فولى مكانه القاضي شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله، فأقام بقية أيام الأشراف بن قلاوون، وأيام أخيه الناصر محمد بن قلاوون في سلطته الأولى، وأيام العادل كتبغا، وأيام المنصور لاجين، وأيام الناصر محمد بن قلاوون في سلطنته الثانية، وأيام المظفر بيبرس الجاشنكير، وبرهة من أيام الناصر محمد بن قلاوون في سلطنته الثالثة.
ثم نقله إلى كتابة السر بدمشق المحروسة عوضاً عن أخيه القاضي محيي الدين بن فضل الله، وولى مكانه بمصر علاء الدين بن الأثير لسابق وعد له منه حين كان معه في الكرك، وبقي حتى مرض بالفالج وبطلت حركته، فاستدعى الملك الناصر القاضي محيي الدين بن فضل الله من الشام، فولاه ديوان الإنشاء بالديار المصرية في المحرم سنة تسع وعشرين وسبعمائة.
وكان ولده القاضي شهاب الدين هو الذي يقرأ البريد على السلطان وينفذ المهمات إلى سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة فأعادهما الملك الناصر إلى دمشق، وولى مكانهما القاضي شرف الدين بن الشهاب محمود في شعبان من السنة المذكورة، فبقي حتى حج السلطان وعاد إلى مصر. فأعاد القاضي محيي الدين وولده القاضي شهاب الدين إلى ديوان الإنشاء بالديار المصرية، فبقيا إلى سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة.
وفي أواخر ذلك تغير السلطان على القاضي شهاب الدين المذكور وصرفه عن المباشرة، وأقام أخاه القاضي علاء الدين مكانه يباشر مع والده، وبقي الأمر على ذلك مدة لطيفة.
ثم سأل القاضي محيي الدين السلطان في العود إلى دمشق، وقد كبرت سنه وضعفت حركته، فأعاده وصحبته ولده القاضي شهاب الدين وكتب له تقليد في قطع الثلثين: بأن يستمر على صحابه دواوين الإنشاء بالممالك الإسلامية، وأن يكون جميع المباشرين لهذه الوظيفة بالباب الشريف فمن دونه نوابه، وأنه حيث حل يقرأ القصص والمظالم، ويقرر الولايات والعزل والرواتب وغير ذلك، ويوقع فيها بما يراه، وتجهز إلى مصر ليعلم عليها العلامة الشريفة، وفوض أمر ديوان الإنشاء بالديار المصرية لولده القاضي علاء الدين استقلالاً، وتجهز القاضي محيي الدين للسفر، فمرض ومات بعد أيام قلائل في شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة بالقاهرة. ثم نقل إلى دمشق سنة تسع، وبقي ولده القاضي علاء الدين فبقي في الوظيفة بقية أيام الملك الناصر ثم أيام ولده المنصور أبي بكر، ثم أخيه الأشرف كجك، ثم أخيه الملك الناصر أحمد.
فلما خلع الناصر أحمد نفسه في سنة ثلاث وأربعين وتوجه إلى الكرك، توجه القاضي علاء الدين معه، فأقام عنده؛ واستقر الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاوون في السلطنة بعد أخيه أحمد، فقرر في ديوان الإنشاء القاضي بدر الدين محمد بن محيي الدين بن فضل الله، فبقي في الوظيفة إلى أن عاد أخوه القاضي علاء الدين من الكرك، فأعيد إلى منصبه، وبقي بقية أيام الملك الصالح إسماعيل، ثم أيام أخيه الكامل شعبان، ثم أيام أخيه المظفر حاجي، ثم أيام أخيه الناصر حسن في سلطنته الأولى، ثم أيام أخيه الصالح صالح، ثم أيام الناصر حسن ثانياً، ثم أيام المنصور محمد بن حاجي بن محمد بن قلاوون، ثم أيام الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون فتوفي؛ وولي الوظيفة بعده ولده القاضي بدر الدين محمد، فبقي بقية أيام الأشرف شعبان، ثم أيام ولده المنصور علي، ثم أيام أخيه الصالح حاجي بن شعبان إلى أن خلع؛ وجاءت الدولة الظاهرية برقوق وعاد المنصور حاجي بن الأشرف شعبان إلى السلطنة وهو مستمر المباشرة.
فلما عاد الظاهر برقوق من الكرك حضر معه القاضي علاء الدين علي الكركي، فولاه كتابة السر وبقي حتى توجه صحبة السلطان إلى الشام في طلب منطاش، فمات القاضي علاء الدين، وكان القاضي بدر الدين صحبته فأعيد إلى الوظيفة في سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة، وعاد مولى صحبة الركاب الشريف السلطاني. ثم توجه صحبته إلى الشام عند وصول تمر لبغداد، فمرض ومات هناك، فولى الظاهر مكانه القاضي بدر الدين محمود السراي الكلستاني في شوال سنة ست وتسعين وسبعمائة، وحضر صحبة الركاب الشريف إلى الديار المصرية، فبقي حتى توفي في جمادى الأولى سنة إحدى وثمانمائة، فولى الظاهر مكانه المقر العالي الفتحي فتح الله، ففتح الله به من أبواب ديوان الإنشاء ما كان مغلقاً، وأصفى به من ورده ما كان مكدراً.
وانتقلتن السلطنة بعد وفاة الظاهر برقوق إلى ولده الناصر فرج، فأجراه من المباشرة والإجلال والتعظيم عل عادة أبيه. ثم صرفه عن الوظيفة في شهور سنة ثمان وثمانمائة وأقام مكانه في الوظيفة المقر السعدي إبراهيم بن غراب، وهو يومئذ مشير الدولة بعد تنقله في وظائف الديار المصرية والمشار إليه، وأقام بها بمدة لطيفة، وعادت إلى المقر الفتحي فتح الله المشار إليه، وقيل: {هذه بضاعتنا ردت إلينا} فجرى فيها على الأسلوب الأول والمهيع السابق: من العدل والإنصاف والإحسان إلى الخلق، وإيصال البر إلى مستحقيه، والمساعدة في الله لمن عرف ومن لم يعرف؛ والله هو المكافئ لعباده على جميل الصنع!
من يفعل الخير لم يعدم جوازيه ** لن يذهب العرف بين الله والناس